القائمة الرئيسية

الصفحات


مقدمة:

في مجال التفاوض، كثيرا ما يتبع أحد المفاوضين موقفا صلبا متمسكا برأيه غير قابل للعدول عنه لمصلحة التفاوض.
والسبب الغالب لذلك هو اعتقاد ذلك الطرف بقوة موقفه، ومناعته في المفاوضة، مما يدفعه إلي اتخاذ هذا الموقف لتعظيم مكاسبه علي حساب الطرف الاخر. والعند الزائد الغير مبرر لا يظهر حسن نية من جانب الطرف المتفاوض بل دائما ما يؤدي إلي فشل المفاوضات في النهاية و استمرار النزاع إلي أجل غير مسمى.
في هذا البحث نعرض لخطأ هذا الاتجاه فلا وجود في أرض الواقع لموقف قوي بنسبة مائة بالمائة ولا موقف ضعيف بذات النسبة بل على العكس في كثير من الأحيان يكون لصاحب الموقف الضعيف - من وجهة نظر البعض في بعض المفاوضات- الغلبة على صاحب الموقف الاقوى.

نظرية عقب أخيل:

تفترض نظرية عقب أو كعب اخيل إنه لا يوجد أي نظام - وإن كانت النظرية تتحدث بشكل أساسي عن النظم الأمنية إلا أن المبدأ يصلح للتطبيق على قاعدة عريضة من الأنظمة مثل التفاوض علي المنازعات وغيرها- بدون ثغرات، يقوم علم إدارة المخاطر بالكامل على تلك النظرية من ضمن نظريات أخرى.

في البداية يجب أن نعرف أساس النظرية بالحديث عن أخيل البطل الإغريقي الأسطوري صاحب التسمية، فاخيل كان ابن ملك ميرميدون وامه تدعى ثيتس، بعد ولادته تنبأ العارفين بأنه سوف يقتل في معركة، فما كان من أمه الثكلى الا أن قامت بأخد الطفل وتوجهت به ناحية نهر سيتكس، ونهر سيتكس في المثولوجيا الإغريقية هو النهر الواقع بين عالم الاموات والاحياء، على شاطئه يقف خارون المعداوي في مركبه، تعبر معه الارواح مقابل قطعتين نقديتين من عالم الاحياء لعالم الاموات، وكان للنهر قوة عجيبه وتأثير على الاحياء تعطيهم قوى خارقة في كثير من الأحيان حيث كان يجري حول عالم الأموات سبع مرات.

النهر نفسه مؤذي للبشر إلا أن أخيل أمه كانت حورية من حوريات الماء فكان تأثيره مختلف على جسده، قامت ثيتس بغمر ابنها في ماء النهر حتى يكتسب جسمه صلابة ومناعة في مواجهة الاسلحه، وغمرته عدت مرات في النهر، إلا أنها كانت ممسكة الطفل من كعبيه حتى لا يسقط في الماء، لذا فقد اكتسب جسده كله مناعة من الموت إلا كعبيه.

في ملحمة الالياذة، قتل اخيل هيكتور أفضل محاربين طروادة، ونظرا لمناعة جسده لم يقوى عليه أحد، إلا باريس، وباريس هو أخو هيكتور وهو من تسبب في اندلاع معركة طروادة وحرب العشرة اعوام ولكن تلك قصة أخرى. قام باريس انتقاما لاخيه المغدور بمبارزة أخيل واطلق سهم على قدمه أصاب كعبه وقطع أوتاره مما أسقطه وبهذا تمكن باريس من أن يجهز عليه.

لأسطورة اخيل تفسيرات عديدة، فهناك من يفسرها بأنها تعبر عن نقاط الضعف في الشخصية التى قد تهلك صاحبها، ويستخدمها الخبراء الامنيين للدلالة علي أنه لا يوجد نظام امني بلا نقطة ضعف أو ثغرة تمكن من اختراقه، ونستخدمها في علم التفاوض للدلالة علي عدم الاغترار بنقاط القوة للخصم وإن كان تنينا ينفس اللهب، كلها تفسيرات تتحدث عن الضعف البشري أو ضعف الأنظمة سواء كانت إدارية أو عسكرية أو أمنية، وما يعنينا منها الان تأثيرها على المفاوضات.

ونقاط الضعف في المفاوضات  تتعدد بين نقاط مرتبطة بالموضوع ، الوقت أو الاجراءات، وقد تكون متعلقة بشخص المفاوض من حيث الكفاءة أو مهاراته الشخصية، وكثيراً ما تجتمع عدد من تلك العناصر سوياً لتعرقل المفاوضات وتصعب من موقف المفاوض والمفاوضة، ونعرض لبعض منهم كالتالي:

·        من حيث الوقت:

قيل قديماً عن الوقت "الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك"، وفي الانجليزية Time waits for no one، فالوقت ليس دائما في صالح المرء بل كثيرا ما يكون سبب شقائه، كذلك الأمر في المفاوضات. عادةً ما يكون الوقت عامل معاكس لصاحب الموقف القوي في المفاوضات، فانت لا تعلم بما تخبيء الأيام، قد يحدث تغيير في القرارات الحكومية أو التشريعات الداخلية للدولة، أو تغيير في الأنظمة والاتجاهات القضائية فيما يتعلق بتفسير أو تطبيق قواعد معينة مرتبط بالنزاع محل المفاوضات، أو أي حدث أخر قد يتسبب في الحول بين صاحب الموقف القوي وبين مبتغاه ويؤثر تأثيراً سلبياً على موقفه في موضوع المنازعة.

·        من حيث الاجراءات:

والمقصود هنا اجراءات عقد او استمرار المفاوضة أو إجراءات المطالبة/التقاضي الخاصة بالموضوع محل المنازعة.
فقد لا يشكل موقف المفاوض القوي شيئاً في المفاوضة لصعوبة اجراءات عقد المفاوضة، كما نرى في كثيراً من الأحيان أن تكون أحد جهات التفاوض لديها صعوبة في اختيار المفاوضيين أو حتى البدء في اجراءات التفاوض نفسها نظراً لوجود صعوبات بيروقراطية لعقد التفاوض، أو عبر ارسال أشخاص غير مفوضين لاتخاذ قرارات –أي حضورهم للاستماع فقط- ثم الدخول بعد ذلك في دوامة من اللجان والاجتماعات الداخلية لعرض الأمر على إدارة الكيان التابع لهم لاتخاذ قرار فيما يتعلق بالمفاوضة، الأمر الذي قد يستمر لأيام وأسابيع وفي أغلب الأحيان لشهور عديدة، والوقت كما أسلفنا ليس دائماً في صالح المرء.

·        من حيث الموضوع:

قد تكون أوراق ووقائع التفاوض في صالح طرف على حساب الأخر، إلا أن طبيعة الموضوع نفسه تتطلب الكثير من الجهد للمطالبة به واثباته بصورة فعالة أمام الجهات القضائية أو الرسمية، مما يعقد موقف الطرف الأقوى وان كان حقه في النهاية مضمون إلا انه لطبيعة الموضوع يتطلب وقت كبير حتى تمام الحصول عليه.
والمشقة هنا قد تكون مشقة مالية، أو انتظار وقت طويل، أو فيما يتعلق باجراءات الاثبات وغيرها من اجراءات المحاكم والرسميات، وبناء عليه قد يكون الموضوع محل اعتبار كبير في تقدير مدى قوة موقف أي من أطراف التفاوض.

·        من حيث شخصية المفاوض:

ضعف المفاوض وقلة مهاراته من اهم أسباب فشل المفاوضات، فالمفاوض الذي لا يستطيع أن يعالج المعلومات المعطأة له ويستخدمها بشكل جيد يؤدي بنفسه وبالمفاوضة إلى طريق مسدود.
فعندما يكون المفاوض غير متمرس، غير مهني، يغلب المعيار الشخصي على المعيار الموضوعي، لا ينظر إلى المفاوضة وإلى طبيعة الموضوع محل المنازعة على أنهم وحدة واحدة متكاملة، فيعد المفاوض نفسه في هذا الموضوع نقطة ضعف قد تعصف بالمفاوضة وبموقف الطرف الأقوى في المفاوضة تماماً.
ولا نندهش عندما نجد في كثير من الأحيان قيام البعض من صغار المفاوضين ، بالسيطرة على جلسات التفاوض في حين أن كبار المشتغلين بالتفاوض يجلسون صامتين غير قادرين على الرد أو تولي زمام الأمور، نتيجة لارتكابهم أخطاء يستغلها الطرف الأخر في إحراجه وادارة دفة التفاوض لصالحه.
والأسباب المتعلقة بالمفاوض تنقسم إلى أسباب شخصية، متعلقة بالمهارات الشخصية للمفاوض، وأسباب مهنية، متعلقة بالمهارات المهنية، فيجب على من يمتهن التفاوض في عمله ، بغض النظر عن منصبه أو مهنته الأساسية أن يتأكد من تحديث مهاراته وخبراته مع الوقت.
ومن المهارات الشخصية اللازمة للمفاوض:
- مهارات التواصل الاجتماعي الفعال: استخدام لغة الجسد بشكل فعال، حسن الاستماع والسيطرة على الانفعال والمشاعر، استخدام أساليب الاقناع والعمل على الوصول لأفضل طريقة مناسبة لاقناع الخصم.
-   مهارات التعامل مع الناس والشخصيات الصعبة تحديداً، وكيفية تجنب مواطن الصراع.
- مهارات التفاوض: عبر تحديد استراتيجات التفاوض المستخدمة في كل مفاوضة وكيفة التعامل مع الخصم ووضع خطة جيدة للتفاوض وحلول بديلة للعمل بينها.
- مهارات العرض والتقديم الفعال: مثل ايجاد أرضية مشتركة بين أطراف المفاوضة، وعرض المعلومات بشكل فعال بعيد عن كشف كافة أوراقه بدون داعي الا عند الحاجة لذلك.
والمهارات المهنية تتمثل علي سبيل المثال في الأتى:
-       التعامل مع الموضوعات المتعلقة بالتفاوض بمعيار موضوعي لا شخصي؛
-       المهنية في التعامل مع الخصم، لا أصدقاء ولا أعداء، ولكن أطراف تجمعهم مسألة مشتركة؛
-       جمع المعلومات اللازمة فيما يتعلق بموضوع المفاوضة؛
-       الإلمام بالقوانين واللوائح وكافة التنظيمات القانونية أو اللائحية المتعلقة بموضوع المنازعة محل التفاوض، وأي عقود أو مستندات أو وقائع مرتبطة أيضاً.
-       أن يكون للمفاوض نظرة استباقية توقعية في التفاوض، فعليه أن ينمي مهارة التوقع لديه.
فالنهاية، فان أي من نقاط الضعف بعاليه لا يجب ان تستغل لأكثر من الحصول على اتفاق فعال يرضي جميع الاطراف بدون الضغط على طرف لكسره واستغلاله فقط، فيجب دائما الوضع في الاعتبار أن الهدف من التفاوض انهاء المنازعات الجارية بين أطرافه لاستمرار العلاقات الجيدة بينهم فيما بعد، وعلى المفاوض الذكي أن يفهم ذلك وأن يعمل على حدوثه، وان كانت مسألة أخلاقية في المقام الأول إلا انها لها مردود قوي وسيء على سمعة المفاوض المستغل فقط على المدى البعيد، مما يحول ذلك الاستغلال إلي نقطة ضعف قد تستغل فيما بعد.
إن المفاوض المهني الجيد يستطيع أن يدير جلسات التفاوض بطريقة أكثر فاعلية من غيره، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، وبهدف الحصول على أفضل النتائج للطرف الذي يفاوض عنه وللطرف الأخر أيضاً. 

تعليقات